تطوير الذاتمفالاتمقالاتمنوعات
لحظة واحدة .. هل ترى ما أنا أراه؟
لحظة واحدة .. هل ترى ما أنا أراه؟
(1)
- ماذا لو جربت أن ترى الأشياء كما يراها الآخرون لا كما تراها أنت؟
أستطيع أن أقولَ لك أنَّ هذه التجربة كفيلة بأن تجيب على العديد من التساؤلات التي تدور في عقلِك نحوَ الأشياءَ والأشخاص. وعلى جانبٍ آخر ستُنعِش الإنسان الذي بداخلك، لتشعر بالآخرين وتتأمل حياتهم. كما أن خوض هذه التجربة أفضل من أن تُطلِق بعض الإتهامات والأحكام، لتريح تفكيرك وتُحرَّم لذة الفهم!
هل جربت يومًا أن تضعَ عُصبةً على عينيك، وتمارس يومك بشكل طبيعي لتشعرَ بما يُعانيه الكفيف في هذا العالم؟ هل جربت يومًا أن تقيّد يديك، وتمنعهما من الحراك، لتدركَ ما يمر به من فقدَ يديه! هل جربت يومًا أن تضعَ نفسك في ظروفِ غيرك؟ محاولاً أن تتعرضَ لكلِ ما تعرضَّ له، متأملاً كل ظرف مرّ به؟!
هذه الطريقة في التفكير، تُجيبُ لك عما كنتَ تراه ولا تفهمه، وتتعجب منه ولا تدركه!
لماذا؟
لأن كل إنسان بطبيعته يغنّي على ليلاه، ولا يكاد يدندن عن شيء سواها. فكل إنسان يرتدي عدسة ما تخصه، وكل عدسة ترى العالم بشكل مختلف عن الآخر، فكل واحد منهم يلون الدنيا بلون ما في نفسه ويقيس الأمور حسب المقاييس التي نشأ عليها!
لو ضربنا مثلاً، بخلاف وقع بين مجموعة من أصحاب البقالات في وسط الحارة، وكان ذلك على مرأى من الناس، فستجد المسئول عن الأمن قد يفكر هل تعرض أحدهم للسرقة؟ وتجد التاجر يتساءل هل لذلك علاقة بجودة التسعير وطبيعة المنافسة فيما بينهم، وقد يشغل عقل أحدهم مدى الفوضى والازعاج الذي تثيره هذه الحارة، وآخر سيرى مدى سوء الحال وعدم احتمال الناس بعضهم البعض..!
بل أبسط من ذلك، قد نتشارك أنا وصديق مشاهدة فيلم سينمائي، ويجدني أهيم به وأحب مشاهدته مرة أخرى، وهو لا يشاركني ذلك أبدًا، ويرى أن الفيلم في غاية البؤس وقد ضيع وقته فيه دون فائدة.. ببساطة كنتُ أنا أبحث عن جمال التصوير وإبداع الإخراج وكانت حاضرة، أما هو يبحث عن جودة القصة والأفكار والمعاني ولم يجدها!
قيل قديمًا "لولا اختلاف الأذواق لما بيعت السلع" ومن الطبيعي أن تختلف الأذواق والميول، ولكن ليس من الطبيعي أن يكون هذا الاختلاف سببًا في خلاف وخصام.
قبل عام، شاهدنا فتاة ترتدي فستانَ زفافها وتطوفُ به وسط البلد! وشابٌ يرتدي زي سبايدر مان وآخر باتمان! إنها مشاهد غريبة، ولعلّ الانطباع الأول الذي يسيطر عليك السخرية والتعجب، ثم تطلق أحكامًا سريعة وتترك الموضوع وشأنه! لكن ماذا لو أنَّك فكرت حقًا، ما الذي يجعل فتاة في زهو عمرها ترتدي زي زفافها وتتجول به؟ ما الظروف التي دفعتها لتأخذ قرار كهذا؟ وما الذي يدفع شاب إلى ارتداء مثل هذه الأزياء ويكلف من يصوره لتنشرَ عنه الصحف سواء بإرادته وتخطيطه أو بدون ذلك، ويصبح حديث الساعة على صفحات التواصل الإجتماعي!
بإمكانك أن تبحثَ عما وراء الخبر وأن تسرحَ بخيالك، ماذا لوكنت مكانهم، ماذا ترى؟
حتى لو خرجنا من قالبِ مجتمعنا.. فهل تعلم أن ستيف جوبز - مؤسس شركة (apple) - مثلاً، كان يحب أن يتجول في جامعته حافيًا؟! وأن الممثلة ميجان فوكس تخاف من عدم مقدرتها على النظر لصورها ومقاطع الفيديو الخاصة بها. والكثير من المشاهدات الصغيرة جدًا والكبيرة التي تؤكد لك أنه وراء كل إنسان ألف حكاية وحكاية، من البساطة تجاهلها، ومن المتعة والإنسانية فهمها وإدراكها!
أما عنّي، فإني فكنت أظن العالم هو كل ما أراه من حولي، هو ما أشاهده في التلفاز، وما أتحدث فيه مع الأصدقاء، أو ما أجده في قراءاتي، أو حتى تلك الخيالات التي رأيتُها في منامي، بل وجدت عالمًا آخر مجرد أن عشت حياة شخصٍ آخر لدقائق معدودة!
(2)
- هل نتنازع أنا وأنت على حقيقة مطلقة، أم إنه اختلاف في وجهة النظر؟!
| هنا سأورد اقتباسات من كتابات د.علي الوردي ورؤاه الفكرية..
يضربُ الوردي مثالا في كتابه خوارق اللاشعور قائلاً: "البدوي يقتل أخته مثلاُ إذا اشتبه بسلوكها فهو يفعل ذلك مفتخرًا كأنه يجاهد في سبيل الحق أو الفضيلة. فإذا جادلته في الأمر اندهش من جدلك واتهمك في شرفك وعرضك. وفي أمريكا يرحب الأب بصديق ابنته ويتركهما وحدهما يتحاضنان ويتعانقان في بيته. فإذا سألته في ذلك قال إن ذلك هو السبيل الوحيد لكي تتعرف ابنته على زوج المستقبل ولكي تمتحن شخصيته وأخلاقه. فالأمريكي يستهجن عمل البدوي ويعتبره وحشية، والبدوي يعتبر عمل الأمريكي دياثة. وكل واحد منهما واثق من صحة ما يقول وثوقًا تامًا"
ثم استشهد بقصة أخرى "التقى فارسان من فرسان القرون الوسطى عند نصب قديم فاختلفا في لونه، أحدهما يقول إنه أصفر والآخر يقول إنه أزرق. والواقع أن النصب كان أصفر وأزرق في آن واحد، حيث كان مصبوغًا في أحد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الآخر. ولم يشأ هذان الفارسان الشهمان أن يقفا لحظة ليتفحصا لون النصب من كلا وجهيه. لقد كان همّ كل منهم منصبًا على تفنيد الآخر وإعلان خطئه. وكانت النتيجة أنهما تبادلا الشتائم اللاذعة ثم تبادلا ضرب السيوف والرماح من بعد ذلك"
فيوضح رأيه، بأنه هكذا يتنازع الناس في أغلب أمورهم. فكل واحد منهم ينظر الحقيقة من زاويته الخاصة ثم يريد من الغير أن يرى مثل ما يراهُ هو!
ويقول أيضًا: " إن مشكلة النزاع البشري هي مشكلة المعايير والمناظير قبل أن تكون مشكلة الحق والباطل. وما كان الناس يحسبون أنه نزاع بين حق وباطل هو في الواقع نزاع بين حق وحق آخر. فكل متنازع في الغالب يعتقد أنه المحق وخصمه المبطل، ولو نظرت إلى الأمور من الزاوية نفسها التي ينظر منها أي متنازع لوجدت شيئًا من الحق معه قليلاً أو كثيرًا"
ويستشهد بمقولة "لو عرفت كل شيء لعذرت كل فرد" مدام شتايل.
معلقًا على ذلك بأنه قول صحيح من بعض الوجوه. فكل إنسان تستطيع أن تعذره لو نظرت إلى الأمور بنفس المنظار الذي ينظر إليها به.
إن الوردي يرى أن الإنسان ينظر إلى الكون من خلال إطار فكري مكون من عقده النفسية وقيوده الاجتماعية والحضارية، وهو متأثر به في كل شيء من حيث لايشعر. ويفرق الوردي بين الإنسان العادي والباحث المبدع فالأول يراه حينما ينظر إلى ما حوله لا يدرك أن نظرته مقيدة ومحدودة، أما الثاني يعترف بإطاره الفكري ويدرك أنه مقيد بشكل أو آخر.
ويجد الوردي في نظرة الإنسان العادي لتفكيره بأنه حرّ خطرًا كبيرًا، فلا يكاد يرى أحدًا يخالفه في رأيه حتى يثور غاضبًا ويتحفز للاعتداء عليه، وهو عندما يفعل ذلك لا يعدّه شينًا ولا ظلمًا بل يراه جهاد في سبيل الحقيقة ومكافحة ضد الباطل.
ويتعجب من أن بعض الناس ينكرون وجود إطار على عقولهم، فهم بهذا يبرهنون على تعصبهم الشديد على حد تعبيره. فيقول " كلما اشتد اعتقاد إنسان بأنه حرّ في تفكيره، زاد اعتقادي بعبوديته الفكرية".
ما رأيك أنت؟ هل ترى في نظرة الإنسان للأشياء دور كبير في تقبل الآخر ومعرفته، أم أن الخلل في شيء أكبر؟