تطوير الذاتمفالاتمقالاتمنوعات
ما الذي يقودك إلى العبقرية ؟ العبقرية عند الوردي
ما الذي يقودك إلى العبقرية ؟ العبقرية عند الوردي
ما الذي يقود الإنسان إلى ابتكار شيء ما يجعلنا مشدوهين إليه ونصفه بالعبقرية، خاصة
عندما يكون في ظروف صعبة، وبيئة لا تمنحه هذا الإلهام، ما السر؟
مع هذا السؤال الذي كنتُ أبحث عن إجابته، وقع في يدي كتاب لطيف، أو هو الذي جذبني إليه حينما رأيته مصادفة، كتاب "خوارق اللاشعور" للدكتور العراقي علي الوردي.
يتحدثٌ الوردي في كتابه ولكن على غير المعتاد حول أسرار النجاح والعبقرية الشخصية وما وراءها من وحي التجارب الذاتية الإنسانية، باحثًا عن أسباب النجاح الذي رآه يأتي باسترسال دون تعمد أو تكلف من صاحبه، حيث تهيم روحه وتنغمس في عالم أكبر وتكون مُلهمة ومنطلقة، وقد تساءل في الفصل الثاني من الكتاب المعنون بـ "الإطار الفكري" ماهي العبقرية ؟ السؤال الذي أوضح أن الإجابة عليه تحوي اختلافا شديدًا بين الباحثين. وقد سرد باقة من آراء أبرز الفلاسفة والمفكرين حتى بيّن رأيه.
وهنا أدون أبرز الأفكار التي حاول أن يصف بها العبقري، وكيف يكون كذلك؟
- العبقري عند إنتاجه لا يشعر بنفسه، وكأنه شخصًا آخر!
" إن العبقرية خروج عن الذات، وانغمار في عالم أوسع"
فيقول: هي تعتبر نوعًا من أنواع الجنون أحيانًا، لأنها تخرج بصاحبها عن حالته الاعتيادية وتجعله ينظر إلى الحياة بمنظار ثاقب نفّاذ لم يعهده الناس من قبل. واستشهدَ بمقولاتٍ منها المنسوبة للأديب الإنجليزي "كيتس" : إنه كان يشعر عند الإنتاج بأن شخصًا آخر في داخله يملي عليه، وهو لا يكاد يدرك جمال الأفكار التي يأتي بها إلا بعد أن ينتهي من كتابتها.
- العبقري متحرر من قيوده، وبهذا التحرر يرى ما لا يراه الناس !
محروم من العبقرية من انغمس في "إطاره الفكري"
ويقصد الوردي بالإطار الفكري (تركيبة الإنسان المؤلفة من العقود النفسية والعادات الاجتماعية والقيم الحضارية) لأن هذا الإطار بمثابة العراقيل التي تقف في طريق ابداعه الحر.
" إن العبقري كثيرًا ما يضحك على نفسه وعلى جماعته، وهو لا يكاد يعرف الخجل أحيانًا" ويضيف: فنفسه قد تحررت من القيود التي يتقيد بها غيره عادة، فهو منطلق يطير في الأجواء حيث يستطيع أن يرى ثمة ما لا يراه المتحذلقون والمتكلفون.
"ميزة العبقري أنه معرض للحيرة و التساؤل تجاه الأمور العادية التي لا ينتبه إليها عامة الناس, و مثله في ذلك كمثل نيوتن الذي اكتشف قوانينه الكبرى إثر انتباهه لسقوط تفاحة بجانبه" د. علي الوردي – منطق ابن خلدون
- العبقري يحاول فهم الحياة على أساس موضوعي وليس فقط يريد الحياة!
هكذا فسّر "شوبنهور" الألماني العبقرية، فهو يرى أن الدافع الرئيسي للفرد العادي إرادة الحياة، ومن خلالها ينظر إلى الحياة، أما العبقري فهو يسمو عن ذلك ويحاول أن يفهم الحياة على أساس موضوعي.
ويرى "شوبنهور" أن العبقرية تجعل صاحبها يهمل مصالحه ورغباته وأهدافه، وينبذ شخصيته لمدة معينة بحيث يكون فيها أداة خالصة للمعرفة والنظر في الكون نظرًا نقيًا، فالمعرفة لديه ليست خاضعة لإرادة الحياة وليست مسيّرة للمصالح الشخصية. بل المعرفة عنده هي التي تسيّر الحياة. وهذا بحد تعبيره السبب في كون الناس لا يفهمون العبقري وهو لا يفهمهم، فهو يمشي وينظر نحو السماء فيقع في البئر!
"كلما كان الإنسان أكثر اجتماعية كان أقل عبقرية وأكثر ابتذالاً" شوبنهور.
- العبقري يشعر أنه ينتمي للبشرية جمعاء، وهو ثائر على العُرف!
فكما يوضح "برجسون" الفرنسي أن الإنسان بطبيعته ميال إلى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها. أما العبقري فيشعر أنه ينتمي إلى البشرية جمعاء، ولذا يخترق حدود الجماعة التي نشأ فيها ويثور على العرف الذي يدعم كيانها. إنه يخاطب الإنسانية كلها بلغة من الحب، وكأنه إنسان من نوع جديد.
ويرى "برجسون" أيضًا، أنه حين ينغمر العبقري في ساعة الإبداع يغيب عن وعيه، وهو عند ذلك يتحد مع الدفقة الحيوية التي تسيّر الكون، ويستشف من "الحقيقة المطلقة" ما لا يستطيع أن يستشفه المنغمسون في همومهم الضيقة المحدودة.
- العبقري يشعر أنه مكلف برسالة ما ويحب أن يفنى فيها!
فيصف "توينبي" الإنجليزي العبقري أنه يحب الابتداع والثورة على التقاليد، بعكس الفرد العادي فهو محافظ جامد يميل إلى التمسك بالعادات الموروثة. ويؤكد "توينبي" أن العبقري مقلق للنظام الاجتماعي مهدد لكيانه، وهو كالعاشق الولهان برسالته كأنه لا يعرف من الدنيا إلا إياها.
ويرى "توينبي" أن العبقرية هي سبب التطور في المدنيات البشرية.
وعن الفارق الذي يميز المدنية عن الحياة البدائية عند "توينبي" هو في كثرة ظهور العباقرة في الأولى، وقلتها في الثانية.
فالمدينة تفسح المجال للعبقري أن يبدع ما يهوى، أما بين البدائيين والمتأخرين فالمجدد ممقوت وكل من يبتدع شيئًا لم يعهدوه من قبل قابلوه بالإنكار أو الاستهزاء أو الأذى، ولا ينجح بينهم إلا الجامدون المتزمتون الذين يتنافسون ويتفاخرون على مبلغ ما يتفوق به أحدهم في تمسكه بالعادات الموروثة والقيم الاجتماعية. وهذا الاختلاف في اتجاه التقدير بين المتمدنين والمحافظين في رأي "توينبي" هو الذي يؤدي إلى الاختلاف العظيم في مظهر الحضارة.
- العبقري يُعرف بما يتوجه إليه من غايات غير عادية!
يقول عالم النفس "جيمس" : إن الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية في العقل، بل إلى الموضوعات والغايات التي يوجهون إليها هممهم، وإلى درجة التركيز التي يسعهم أن يبلغوها"
- العبقري يستطيع الجمع بين "السعي" و "الكسل" بإرادته!
يقول الوردي "إن العبقري النادر هو الذي يجمع بين العقل والجنون، وبين السعي والكسل، وبين الإرادة واللامبالاة ونود الآن أن نقول إضافة إلى ذلك : أنه يتصف بالتفكير الفطري والمدني معاً. وربما صح القول: بأن العبقرية هي اجتماع النقائض في شخصية واحدة"
ويوضح ذلك بأن مشكلة الفرد العادي أنه لا يستطيع أن يجمع في نفسه العادات المتناقضة، فهو إما أن يكون قوي الإرادة دؤوبًا كثير العمل، أو يكون كسولاً لا يبالي بأي شيء. فميزة العبقري أنه يستطيع الجمع بين الاثنين، مما يجعله يستثمر عقله الباطن والظاهر معًا.
ويقول الوردي أيضًا في جزء آخر، نحن لو درسنا حياة الناجحين لوجدناهم أثناء العمل في غاية الهدوء والاسترسال. فتراهم حين يعملون كالأطفال الذين شغفوا باللعب فانهمكوا فيه وغفلوا عما حولهم من الناس والأشياء.
"هل هناك مظهر استغراق أعظم مما يبدو على الطفل حين يعكف على كتاب أو يسترعي اهتمامه شيء جديد؟ وكثيرًا ما نؤنب الطفل حينئذ لأنه لا يلقي باله على مانقول، ولكن الواقع أنه منصرف بقلبه وعقله انصرافًا رائعًا إلى أمر بعينه، ومن واجبنا أن نتقي قدر الإمكان إفساد هذه القدرة المباركة على الاهتمام الجديّ بشيء ما" من كتاب هل أنت حي؟
"إن المبدع حينما يُنتج ينسى نفسه وينغمر في عمله، ويصبح آنذاك كالحالم الذي لا وعي له ولا إرادة"
| برأيك أنت، هل ترى أن الإنسان بإمكانه أن يكون عبقريًا، أم أنه شيء يأتي الإنسان دون إرادته؟ ويسعدني مشاركتك بآراء أخرى حول العبقرية.