قصص
ماشطة بنت فرعون
ماشطة بنت فرعون |
ماشطة بنت فرعون
امرأة صالحة كانت تعيش هي وزوجها في ظل ملك فرعون، زوجها مقرب من فرعون، وهي خادمة ومربية لبنات فرعون، فمن الله عليهما بالإيمان، فلم يلبث أن علم فرعون بإيمان زوجها فقتله، وبقيت هي بعد ذلك تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون، وتنفق على أولادها الخمسة تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها.
وذات يوم بينما هي تمشط ابنة فرعون إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: الله أبي، فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلا، بل الله ربي وربُّك وربُّ أبيك، فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها، فأخبرت أباها بذلك، فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره.
فدعا بها، وقال لها: من ربك؟ قالت: ربي وربك الله، فأمرها بالرجوع عن دينها، وحبسها وضربها فلم ترجع عن دينها، فأمر فرعون بقدر من نحاس فمُلِئ بالزيت ثم أحمي حتى غلى، وأوقفها أمام القدر، فلما رأت العذاب أيقنت أنما هي نفس واحدة تخرج وتلقى الله تعالى، فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة، الأيتام الذين تكدح من أجلهم لتطعمهم، فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة تدور أعينهم ولا يدرون إلى أين يُساقون، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبت عليهم تُقبلهم وتشمهم وتبكي، وأخذت أصغرهم وضمّته إلى صدرها وألقمته ثديها.
فلما رأى فرعون هذا المنظر أمر بأكبرهم، فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي، والغلام يصيح بأمه ويستغيث، ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون، ويحاول الفكاك والهرب، وينادي إخوته الصغار، ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين، وهم يصفعونه ويدفعونه، وأمه تنظر إليه وتودّعه..
وما هي إلا لحظات حتى ألقي الصغير في الزيت، والأم تبكي وتنظر، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل، وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت، نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله فأبت عليه ذلك، فغضب فرعون وأمر بولدها الثاني، فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث، وما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت وهي تنظر إليه حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه، والأم ثابتة على دينها موقنة بلقاء ربها.
ثم أمر فرعون بالولد الثالث فسحب وقرب إلى القدر المغلي، ثم حمل وغيب في الزيت، وفعل به ما فعل بأخويه، والأم ثابتة على دينها، فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت، فأقبل الجنود إليه، وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه، فلما جذبه الجنود بكى وانطرح على قدمي أمه ودموعه تجري على رجليها، وهي تحاول أن تحمله مع أخيه، تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها، فحالوا بينه وبينها، وحملوه من يديه الصغيرتين وهو يبكي ويستغيث ويتوسل بكلمات غير مفهومة.. وهم لا يرحمون.
وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي، وغاب الجسد وانقطع الصوت، وشمت الأم رائحة اللحم، وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها، وتنظر الأم إلى عظامه وقد رحل عنها إلى دار أخرى، وهي تبكي وتتقطع لفراقه، طالما ضمته إلى صدرها، وأرضعته من ثديها، طالما سهرت لسهره وبكت لبكائه، كم ليلة بات في حجرها، ولعب بشعرها، كم قربت منه ألعابه وألبسته ثيابه، وعلى الرغم من ذلك جاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك، فالتفتوا إليها وتدافعوا عليها.
الطفل الرضيع
وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، وكان قد التقم ثديها، فلما انتزع منها، صرخ الصغير، وبكت المسكينة، فلما رأى الله تعالى ذلها وانكسارها وفجيعتها بولدها، أنطق الصبي في مهده وقال لها: "يا أماه اصبري فإنك على الحق"، ثم انقطع صوته عنها، وغيِّب في القدر مع إخوته، ألقي في الزيت وفي فمه بقايا من حليبها، وفي يده شعرة من شعرها، وعلى أثوابه بقية من دمعها.
وذهب الأولاد الخمسة، وهاهي عظامهم يلوح بها القدر، ولحمهم يفور به الزيت، تنظر المسكينة إلى هذه العظام الصغيرة، عظام من؟ إنهم أولادها.. الذين طالما عمّروا عليها البيت ضحكاً وسرورا، إنهم فلذات كبدها، وعصارة قلبها الذين لما فارقوها كأن قلبها أخرج من صدرها، طالما ركضوا إليها، وارتموا بين أحضانها، وضمتهم إلى صدرها، وألبستهم ثيابهم بيدها، ومسحت دموعهم بأصابعها، ثم هاهم ينتزعون من بين يديها، ويقتلون أمام ناظريها، وتركوها وحيدة وتولوا عنها، وعن قريب ستكون معهم.
كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب.. بكلمة كفر تُسمعها لفرعون، لكنها كانت على يقين أن ما عند الله خير وأبقى.
لما لم يبق إلا هي أقبلوا إليها كالكلاب الضارية، ودفعوها إلى القدر، فلما حملوها ليقذفوها في الزيت، نظرت إلى عظام أولادها، فتذكرت اجتماعها معهم في الحياة، فالتفتت إلى فرعون وقالت: لي إليك حاجة، فصاح بها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد، ثم أغمضت عينيها، وألقيت في القدر، واحترق جسدها، وطفت عظامها.
فلله درها، ما أعظم ثباتها، وأكثر ثوابها، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها، فحدّث به أصحابه وقال لهم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنه: [«مررت ليلة أُسري بي برائحة طيبة فقلت: ما هذا يا جبريل ؟»، فقال: هذه ماشطة بنت فرعون...].
الله أكبر، تعبت قليلاً.. لكنها استراحت كثيراً، مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها، وجاورت ربها.
والسلام مسك الختـام.