الـيد الـعلـيـا
د.علي الحمادي
رغم يقيننا بأن عدم وجود المال لا ينبغي أن يكون سبباً أو مبرّراً للتقاعس عن التأثير وصناعة الحياة، إذ أن التاريخ والواقع قد ذكرا لنا عدداً من الفقراء كان لهم الأثر البالغ في دنيا الناس، كما أن كثيراً من العلماء الذين بلغ تأثيرهم الآفاق وعبر القرون والقارات، كانوا فقراء حتى قال قائلهم:
قلت للفقر: أين أنت مقيم؟
قال: في عمائم الفقهاء
إن بيني وبينهم لإخاء
وعزيز عليَّ ترك الإخاء
وهذا العالم الفقيه عبدالوهاب المالكي كان يعيش في بغداد، فضاق به الحال فقرر الرحيل من بغداد، وقال للناس: والله لو وجدتُ رغيفين كل صباح ومساء ما عدلت عن بلدكم هذا، ثم قال:
بغداد دار لأهل المال طيبة
وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها
كأنني مصحف في بيت زنديق
أقول: رغم يقيننا بهذا كله إلا أن كلامنا هذا ليس دعوة لطلب الفقر وترك الكسب الحلال، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور، وما ضرّ عثمان } ما فعل بعد أن اشترى الجنة بماله مرتين، ونعْمَ المال الصالح للرجل الصالح.
عن حكيم بن حزام } قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: "يا حكيم، إن هذا المال حلوة خضرة، فمَن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى".
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبوبكر يدعو حكيماً ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس شيئاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي. (رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان).
وعن أبي هريرة }: أن فقراء أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، فقال: "وما ذاك؟"، فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفلا أخبركم شيئاً تدركون به مَن سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم؟"، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "تسبِّحون وتحمدون وتكبِّرون دُبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة"، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ". (متفق عليه).
هكذا يتبيّن لنا كم نحن بحاجة إلى أن نكون أقوياء بالله تعالى أولاً، ثم بما نحمل من مباديء وقيم سامية، ثم بكل أداة أو وسيلة تمكّننا من إحقاق الحق وإعلائه وإقامة أمره، ولعل المال أداة فاعلة في تحقيق كثير مما يريده الحق ويوجب إنفاذه.
لذا لا يجوز لصُناع الحياة ومهندسي التأثير النافع أن يكونوا أقل فطنة وذكاءً (في استثمار المال، والانقطاع به لصالح التأثير النافع) من اليهود الذين أدركوا أهمية المال وخطورته فدخلوا إلى العالم من هذا المفصل الرئيس، فقادوا الأمم، وسيطروا على كثير من الساسة في الدول الغربية، واستطاعوا أن يؤثِّروا تأثيراً كبيراً في دنيا الناس.
ورغم أنهم حفنة قليلة في كل بلد يقيمون فيه إلا أن جميع الساسة يغازلونهم ويخطبون ودهم ويقدمون لهم القرابين ويتفننون في إرضائهم والتقرب إليهم.
وقد وجدنا عدداً ليس بالقليل من كبار الصحابة والتابعين والسلف كانوا أغنياء لأنهم فهموا هذا الأمر جيداً وتعاملوا معه تعامل المسلم الواعي الحصيف، وكانوا مفاتيح للخير بسبب ما عندهم من مال وثراء، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن المبارك، وأبوحنيفة النعمان، وغيرهم.